فصل: الفصل الثالث: نشأة علوم القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.الفصل الثالث: نشأة علوم القرآن:

ابتدأت العلوم الإسلامية بالقرآن، فالقرآن هو مصدر العلوم، وهو المنطلق الأول لنشأة العلوم الإسلامية التي تركزت حول دراسة القرآن وتوثيقه وحفظه وتفسيره وبيان إعجازه ومعرفة الناسخ والمنسوخ منه، والمحكم والمتشابه والأحرف السبعة، والقراءات الثابتة الصحيحة ووجوه بلاغته وفصاحته، ودراسة مفرداته ومعانيه.
ولم تكن هناك علوم مدونة بالمفهوم العلمي الذي عرف فيما بعد، فقد كانت اللغة تعتمد على السليقة العربية السليمة، فما استعمله العرب في كلامهم المنثور والمنظوم فهو حجة، وكان الأمر ميسرا، ولم يكن التدوين منتشرا إلا في نطاق ضيق، وكانت الأمية سائدة، ولم تتجه اهتمامات العرب في الجاهلية إلى التوسع في مجال العلوم، واقتصرت اهتماماتهم على لغة العرب التي كان شعراء الجاهلية يتفاخرون بإجادتها والتعبير عنها وبيان فصيحها.
ولما نزل القرآن كان معجزة النبي صلّى الله عليه وسلم، وتحدى الله العرب به، وعجز العرب عن الإتيان بمثله، بل عجزوا عن الإتيان بآية من آياته، ووقفوا مذهولين حائرين، يدرسون الظاهرة القرآنية في إطارها العام، ولا يجدون جوابا شافيا لتساؤلاتهم سوى التسليم بعظمة القرآن، وبأنه كلام الله.
وتوجهت الأنظار إلى هذا القرآن، باحثة عن معانيه، دارسة أسلوبه، مستخرجة منه قوانين اللغة، مدونة تاريخه، نزولا وكتابة وحفظا وجمعا، مسجلة أوجه قراءاته، محددة ما يجوز منها وما لا يجوز، معتمدة في ذلك على ضوابط ومعايير علمية موضوعية.
ما أعظم تلك البداية.
كتاب الله هو المنطلق.. ومواكب العلماء تلتف حول نصه، باحثة عن معانيه، مدونة تاريخه، مفسرة مفرداته اللغوية، مبينة أوجه الفصاحة والبلاغة فيه. وتتلاحق المواكب والأجيال، كل جيل يضع لبنة في صرح هذا التراث العلمي العظيم، معليا بها ذلك الصرح، مضيفا إلى جهود العلماء السابقين إضافة جديدة، في رحلة موفقة من جاهلية قاتمة المعالم، ضيقة الأفق قليلة العطاء إلى حضارة منيرة مشعة، وجدت في المعرفة امتدادها، وضاعفت بفضل الإسلام عطاءها، وتنافست عواصم الإسلام في رفع منارة العلم، وتزاحمت مواكب العلماء تغذي الفكر الإسلامي وتثري مدارسه.
ومن الطبيعي أن تحظى الدراسات القرآنية باهتمام العلماء والباحثين، وأن تنشأ علوم القرآن وتتعدد، وتخصّص في كل علم علماء، يكتبون فيه ويصنفون، ويتفقون ويختلفون، ولولا هذه الحرية لما تعددت المدارس والمذاهب، ولما تكاثرت الآراء وتباعدت، وليس من حق أحد أن يوقف مسيرة الفكر البانية الأركان المنيرة الطريق، مطاردة عصر الأمية والجهل، مقتحمة غوامض الفكر، مفسرة محكمه، مجتهدة في فهم متشابهه، لا تتهيب رأيا ولا تخشى اجتهادا، تبحث عن الحقيقة، كما يراها العقل، والعقول متفاوتة في طاقاتها متباينة في تكوينها، وكلها مخاطب ومسئول، والمخاطب مكلف بالفهم، لا يغني البعض عن البعض الآخر.
وإن من يدرس علوم القرآن يدرك عظمة الجهد الذي بذله علماء الإسلام، في خدمة كتاب الله، ففي كل جزئية علم، وفي كل علم عشرات الكتب، وفي كل كتاب آراء واجتهادات تعبر عن عظمة تراثنا العلمي، وبخاصة ما يتعلق بالدراسات القرآنية، وبالرغم من مئات المؤلفات في هذه الدراسات، فإن علوم القرآن لا حدود لها، ومن حق أي جيل أن يضيف الجديد من رأيه وفكره واجتهاده، فالجيل اللاحق كالجيل السابق في قدراته، لا يتفاضل جيل عن جيل، ولا يحق لأي جيل أن يدعي لنفسه حق الوصاية على جيل لاحق أو سابق، فالكل في مسيرة واحدة، وتتفاضل الآراء بالحجة والبرهان، ولا تتفاضل بأسبقية تاريخية أو انتماءات مكانية، فلا مجال لذلك في مثل هذه الأمور.
والتفسير هو العلم الأهم في العلوم الإسلامية، وتتفاضل الأجيال بمدى احترامها لقدسية هذا الحق، فالمفسر مجتهد، ولا خير في جيل لا يجد علماؤه ما يكتبونه أو يضيفونه إلى مجال المعرفة الإسلامية سوى ما كتبه السابقون، فمثل هذا الجيل عبء على أجيال سابقة، لأنه لم يضف، والفكر الذي لا يواكب حركة المجتمع سرعان ما ينعزل عن ذلك المجتمع، لأن المجتمع ساحة امتداده، لا يمكن أن يجد ما يقوله، سوى ما سبق أن قيل ولا فضل له فيما نقله عن غيره، فنقلة العلوم لا يرقون إلى درجة العلماء.
وعلوم القرآن كثيرة، ومن الصعب معرفة العلم الأول منها، إذ أن نشأة العلوم بدأت مع بداية نزول القرآن، فالرسم القرآني هو العلم الأول من حيث النشأة، لأنه ارتبط بكتابة القرآن، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم كتّاب الوحي كيفية كتابة القرآن، والعناية برسمه، بطريقة متميزة عن قواعد الإملاء، وعند ما جمع (عثمان بن عفان) القرآن وكتبه في مصحف موحد، راعى الرسم القرآني الأصيل الذي كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتم جمع القرآن لأول مرة في عهد أبي بكر، وتعددت القراءات في وقت مبكر، وكان كل فريق من العلماء يدرس جانبا من جوانب تاريخ القرآن، من حيث الرسم والجمع والنقط والشكل، أو من حيث كيفية الأداء القرآني، كعلم القراءات والتجويد في النطق، أو من حيث معرفة أوجه البلاغة والفصاحة ومنهج الإعجاز البياني.
وكان قراء الصحابة هم الأوائل في معرفة علوم القرآن، وهم الحجة فيما يتعلق بالقرآن، جمعا ورسما وأداء ومعرفة بالناسخ والمنسوخ، وبأسباب النزول، ومعرفة الفواصل والوقف، وكل ما هو توقيفي من علوم القرآن، فلابد له من سند صحيح يثبت أصله ونقله وصحته.
واشتهر عدد من الصحابة ممن عرفوا بمعرفة القرآن وإتقان حفظه وأدائه، ومن أبرز هؤلاء: زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، ومعاوية، وطلحة، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان.
ثم اشتهر عدد من التابعين بقراءة القرآن، ومن أبرز هؤلاء في المدينة: سعيد بن المسيب، وعروة، وابن شهاب الزهري، وعطاء بن يسار، ومعاذ بن الحارث، وزيد بن أسلم، وفي مكة: عبيد بن عمير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي مليكة، وفي الكوفة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعمرو بن شرحبيل، وسعيد بن جبير، والنخعي، والشعبي. وفي البصرة: عامر بن عبد قيس، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، ويحيى بن معمر، وابن سيرين، وقتادة. وفي الشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وخليد بن سعيد.
ثم تتالت مواكب علماء القرآن، ففي كل عصر هناك علماء مختصون، في كل بلد من بلاد الإسلام، ألفوا في علوم القرآن، وصنفوا في كل علم من علومه، في الناسخ والمنسوخ، وفي أسباب النزول، وفي فضائل القرآن، وفي القراءات القرآنية، وفي إعجاز القرآن، وفي غريب القرآن، وفي مفردات القرآن، وفي مجاز القرآن، وفي مبهمات القرآن، كما كتب بعضهم في علوم القرآن.
وكانت الكتابات الأولى في التفسير، نظرا لأنه الأهم في الدراسات القرآنية، والمنهج الأول في التفسير هو التفسير المأثور، وهو المادة الأساسية لمعرفة تفسير القرآن، ولا يمكن معرفة علم التفسير إلا بعد معرفة التفسير المأثور الذي يعطي المعاني الأولى للآية، ويوضح بعض غوامضها، ويبين أسباب نزولها، ويعتبر تفسير الطبري من أبرز كتب التفسير وأهمها، نظرا لما اشتمل عليه من روايات مأثورة، واستنباط صحيح، وترجيح موثق بالأدلة، وأصالة في المنهج، ودقة في التعبير.

.أبرز الذين صنفوا في علوم القرآن:

ومن أبرز الذين صنفوا في علوم القرآن ما يلي:

.أولا: في القرن الثالث:

- اشتهر في هذا القرن كل من: علي بن المديني شيخ البخاري الذي كتب في (أسباب النزول) وأبي عبيد القاسم بن سلام الذي كتب في (الناسخ والمنسوخ) وفي (القراءات وفي فضائل القرآن)، ومحمد بن خلف بن المرزبان الذي كتب (الحاوي في علوم القرآن).

.ثانيا: في القرن الرابع:

- اشتهر في هذا القرن كل من: أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري الذي كتب (عجائب علوم القرآن)، وأبي الحسن الأشعري الذي كتب (المختزن في علوم القرآن)، وأبي بكر السجستاني الذي كتب في (غريب القرآن)، وأبي محمد الكرخي الذي كتب في (نكت القرآن).

.ثالثا: في القرن الخامس:

- اشتهر في هذا القرن كل من: علي بن سعيد الحوفي الذي كتب (البرهان في علوم القرآن)، و: (إعراب القرآن) وأبي عمرو الداني الذي كتب (التيسير في القراءات السبع) و: (المحكم في النقط).
ثم توالت الكتب والمؤلفات والمصنفات، ومن أشهرها (فنون الأفنان في علوم القرآن) لابن الجوزي، وجمال القراء للشيخ علم الدين السخاوي، والمرشد الوجيز في علوم تتعلق بالقرآن العزيز لأبي شامه، والبرهان في مشكلات القرآن لأبي المعالي عزيزي بن عبد المالك المعروف بشيذلة.
وذكر السيوطي في الإتقان عددا من الكتب التي اعتمد عليها ولخص منها، ومن هذه الكتب ما يلي:
من الكتب النقلية:
تفسير ابن جرير الطبري، وفضائل القرآن لأبي عبيد، وفضائل القرآن لابن أبي شيبة، والمصاحف لابن أبي داود، وأخلاق حملة القرآن للاجري، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي.
من كتب القراءات:
جمال القراء للسخاوي، والنشر والتقريب لابن الجزري، والإرشاد في القراءات العشر للواسطي، والشواذ لابن غليون، والوقف والابتداء لابن الأنباري وللنحاس وللداني.
ومن كتب اللغات والغريب والعربية والإعراب:
مفردات القرآن للراغب، وغريب القرآن لابن قتيبة، والوجوه والنظائر للنيسابوري والجمع في القرآن للأخفش، وشرح التسهيل لأبي حيان، وإعراب القرآن لأبي البقاء، ومشكل القرآن لابن قتيبة، واللغات التي نزل بها القرآن للقاسم بن سلام.
ومن كتب الأحكام:
أحكام القرآن للرازي ولابن العربي والكيا الهراسي، ولغيرهم، والناسخ والمنسوخ لمكي ولابن الحصار ولابن العربي وللنحاس وللسجستاني ولأبي القاسم بن سلام، ولغيرهم.
ومن كتب الإعجاز:
إعجاز القرآن للخطابي، وللرماني، ولابن سراقة، ولأبي بكر الباقلاني، ولعبد القاهر الجرجاني، ومجاز القرآن لابن عبد السلام، والإيجاز في المجاز لابن القيم، وبدائع القرآن لابن أبي الإصبع، ومناسبات ترتيب السور لأبي جعفر بن الزبير، وفواصل الآي للطوفي.
كتب أخرى:
وهناك كتب أخرى منها:
البرهان في متشابه القرآن للكرماني، ودرة التنزيل وغرة التأويل في المتشابه للرازي، وأمثال القرآن للماوردي، وأقسام القرآن لابن القيم، وجواهر القرآن للغزالي، والتعريف والإعلام فيما وقع في القرآن من الأسماء والأعلام للسهيلي، والتبيان في مبهمات القرآن للقاضي بدر الدين بن جماعة والمقنع للداني.
وهذه الكتب التي ذكرها السيوطي، بعضها وصل إلينا، والبعض الآخر لم يصل، وهناك كتب أخرى كثيرة، وتشير الروايات إلى أن معظم هذه الكتب كان يبحث في علم من علوم القرآن، كالإعجاز والقراءات والوقف والناسخ والمنسوخ والمجاز والإيجاز والفضائل والغريب والمفردات والإعراب، وبعضها كان يبحث في جوانب من علوم القرآن في إطار بحثه في التفسير أو اللغة أو البلاغة أو علم الكلام.
ويبدو أن أول كتاب صنف في علوم القرآن، واشتهر أمره وحظي باهتمام العلماء هو كتاب (البرهان في علوم القرآن)، للإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794 هـ بمصر.
البرهان في علوم القرآن:
يعتبر كتاب (البرهان في علوم القرآن) من أبرز كتب علوم القرآن وأجمعها، ويعود الفضل في التعريف به إلى جلال الدين السيوطي الذي ألف كتابه (الإتقان)، وأشار إلى كتاب البرهان وأشاد به واعتمد عليه، ونقل منه الكثير من الأقوال والنصوص، وقد جمع فيه الزركشي زبدة أقوال العلماء وصفوة آرائهم، ونقل عن المفسرين والمحدثين والفقهاء والنحاة وأهل البلاغة واللغة أقوالهم، وجمع شتات تلك الأقوال في فصول مستقلة واضحة الدلالة، بينة المعنى، عجيبة الترابط والتكامل، وقسم كتابه هذا إلى سبعة وأربعين نوعا، تحدث في كل نوع من الأنواع عن علم من علوم القرآن وخص النوع الأول بالحديث عن معرفة أسباب النزول، وقسمه إلى فصول، واشتملت الفصول على تنبيهات وفوائد، ثم انتقل إلى النوع الثاني وتحدث فيه عن معرفة المناسبات بين الآيات، من حيث ارتباط الآيات بعضها ببعض، أو من حيث اتصال اللفظ والمعنى، وفي النوع الثالث تحدث عن معرفة الفواصل ورءوس الآيات، وأوضح مباني الفواصل باعتبار التماثل والتقارب في الحروف، وأكد ائتلاف الفواصل مع ما يدل عليه الكلام، وختم هذا النوع بطرق معرفة الفواصل، وهي طريقان توقيفي وقياسي، وتابع دراسة الأنواع المختلفة لعلوم القرآن.
مقدمة البرهان:
قال الزركشي في مقدمة كتابه (البرهان):
(فإن أولى ما أعملت فيه القرائح وعلقت به الأفكار اللواقح، الفحص عن أسرار التنزيل، والكشف عن حقائق التأويل، الذي تقوم به المعالم، وتثبت به الدعائم، فهو العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدافعة، وهو شفاء الصدور والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزل الفصل الذي ليس بالهزل، شهاب لا يخبو ضياؤه وسناؤه، وبحر لا يدرك غوره بهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتظافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه، قد أحكم الحكيم صنيعته ومبناه).
والمقدمة رائعة معبرة، جميلة المبنى، بديعة الصياغة، رفيعة الأسلوب، تعبر عن عظمة القرآن، وروعة معانيه، وهي تلخص علوم القرآن، وتشير إلى علومه، وتبين الغايات المقصودة، ونقل في هذه المقدمة أقوال عدد من العلماء ممن عرفوا بحسن الفهم ونقاء القلب، يؤكدون فيها أن حكمة القرآن وفهم آياته لا ينالها إلا أهل القلوب، ممن اختصهم الله بالحكمة، ولا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبدا، كما يقول سفيان الثوري، انطلاقا من قوله تعالى في سورة الأعراف: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وفسر سفيان بن عيينة، هذه الآية بقوله: سأحرمهم فهم القرآن، وقال ذو النون المصري: أبى الله عز وجل إلا أن يحرم قلوب البطالين مكنون حكمة الله.
وقال الزركشي في إشارة إلى كتابه البرهان:
(ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر، ومعانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقدر الممكن، ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث، فاستخرت الله تعالى- وله الحمد- في وضع كتاب في ذلك جامع لما تكلم الناس في فنونه، وخاضوا في نكته وعيونه، وضمنته من المعاني الأنيقة، والحكم الرشيقة ما يهز القلوب طربا، ويبهر العقول عجبا، ليكون مفتاحا لأبوابه، وعنوانا على كتابه، معينا للمفسر على حقائقه ومطلعا على بعض أسراره ودقائقه، والله المخلص والمعين، وعليه أتوكل وبه أستعين، وسميته البرهان في علوم القرآن).
التفسير عند الزركشي:
ابتدأ الزركشي كتابه (البرهان) بمقدمة وفصلين:
الفصل الأول: عرّف فيه التفسير، وقال فيه: (التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف، وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ).
وأكد في هذا الفصل أن من المعلوم أن الله تعالى خاطب خلقه بما يفهمونه، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه، وأنزل كتابه على لغتهم، وإنما احتيج إلى التفسير والشرح لأمور ثلاثة:
أحدها: كمال فضيلة المصنف، فإن المصنف لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز، فربما عسر فهم مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفية، ومن هنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له.
ثانيها: قد يكون حذف بعض مقدمات الأقيسة أو أغفل فيها شروطا اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر، فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبه.
ثالثها: احتمال اللفظ لمعان ثلاثة، كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه، وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو منه بشر من السهو والغلظ وتكرار الشيء، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.
والتفسير إما أن يكون من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها وإما أن يكون من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته ولطف معانيه، ولهذا لا يستغنى عن قانون عام يعول في تفسيره عليه، ويرجع في تفسيره إليه، من معرفة مفردات ألفاظه، ومركباته، وسياقه، وظاهره، وباطنه، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم، ويدق عنه الفهم.
الفصل الثاني: تحدث فيه عن علوم القرآن، ونقل أقوالا لعدد من العلماء في عدد علوم القرآن وأقسامها، وعما اشتمل عليه القرآن من علوم، فالقاضي أبو بكر بن العربي في كتابه قانون التأويل اعتبر أن علوم القرآن على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، وقال بعض السلف: لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع، وأم علوم القرآن ثلاثة أقسام: توحيد وتذكير وأحكام، فالتوحيد تدخل فيه معرفة الخالق بأسمائه وصفاته، ومعرفة المخلوقات، والتذكير: معرفة الوعد والوعيد والجنة والنار. والأحكام: هي معرفة التكاليف والمنافع والمضار والأمر والنهي والندب.
وقال ابن جرير الطبري: القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء: التوحيد، والأخبار، والديانات، وقال غيره: علوم ألفاظ القرآن أربعة: الإعراب والنظم والتعريف والاعتبار، وبه يكون الاستنباط والاستدلال.
أنواع علوم القرآن عند الزركشي:
ذكر الزركشي سبعة وأربعين نوعا، وقال: إن كل نوع من هذه الأنواع لو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره، ولم يحكم أمره، وإنه اقتصر من كل نوع على أصوله، والرمز إلى بعض فصوله.
وهذه الأنواع هي:
1- معرفة سبب النزول.
2- معرفة المناسبات بين الآيات.
3- معرفة الفواصل.
4- معرفة الوجوه والنظائر.
5- علم المتشابه.
6- علم المبهمات.
7- في أسرار الفواتح.
8- في خواتم السور.
9- في معرفة المكي والمدني.
10- معرفة أول ما نزل.
11- معرفة على كم لغة نزل.
12- في كيفية إنزاله.
13- في بيان جمعه.
14- في معرفة تقسيمه.
15- في معرفة أسمائه.
16- في معرفة ما وقع فيه غير لغة الحجاز.
17- معرفة ما فيه من لغة العرب.
18- معرفة غريبه.
19- معرفة التصريف.
20- معرفة الأحكام.
21- معرفة اللفظ والتركيب.
22- معرفة اختلاف الألفاظ.
23- معرفة توجيه القراءات.
24- معرفة الوقف والابتداء.
25- علم مرسوم الخط.
26- معرفة فضائل القرآن.
27- معرفة خواصه.
28- هل في القرآن شيء أفضل من شيء.
29- في آداب التلاوة.
30- في جواز استعمال آيات القرآن في الرسائل والخطب.
31- معرفة الأمثال الكائنة فيه.
32- في معرفة أحكامه.
33- في معرفة جدله.
34- في معرفة ناسخه ومنسوخه.
35- في معرفة توهم المختلف.
36- في معرفة المحكم من المتشابه.
37- في حكم الآيات المتشابهات.
38- معرفة الإعجاز.
39- معرفة وجوب التواتر.
40- في معرفة معاضدة السنة للكتاب.
41- في معرفة تفسيره.
42- في معرفة وجوه المخاطبات.
43- بيان الحقيقة والمجاز.
44- في الكناية والتعريض.
45- في أقسام معنى الكلام.
46- في ذكر ما تيسر من أساليب القرآن.
47- في معرفة الأدوات.
ترجمة الزركشي مؤلف البرهان:
هو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794 هـ بالقاهرة، أخذ العلم عن شيوخ عصره، عن الشيخ جمال الأسنوي والشيخ سراج الدين البلقيني، والحافظ ابن كثير، واستطاع أن يحظى بمكانة كبيرة في عصره، واشتهر أمره، وبانت أهليته وكفاءته، وتفرغ للتدريس والتأليف، وكان ملازما لسوق الكتب، يسجل ويصنف، واشتهر بالزهد والورع والانصراف عن الدنيا، والرضى بالقليل من المال.
وكان شافعي المذهب، وله أكثر من ثلاثين كتابا، في الأصول والقواعد والفروع والأحكام والعقيدة والأدب، وله كتب في التفسير والحديث، وقام بتخريج أحاديث بعض الكتب، منها تخريج أحاديث الشرح الكبير للرافعي، والتنقيح لألفاظ الجامع الصحيح، وكان كثير الاهتمام بعلم الأصول والفقه، وقام بتكملة شرح المنهاج للإمام النووي وشرح جمع الجوامع.
ويعتبر كتابه: (البرهان في علوم القرآن) من أهم كتبه، وأكثرها شهرة ومكانة، ويتألف من أربعة أجزاء، وقام الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم بتحقيقه.
منهج الزركشي في البرهان:
يتميز الزركشي بأسلوبه الرصين، وعبارته الواضحة والأمانة في النقل، وحسن الاختيار للعبارات المنقولة، والدقة في الاستشهاد، وغالبا ما يذكر في كل علم ما صنف من مؤلفات، ثم يعرف بهذا العلم، بعبارات موجزة واضحة معبرة.
ويمكننا استنتاج معالم منهجه في التأليف من خلال تتبعنا لفصل من فصول كتابه، وهو علم المبهمات الذي يعتبر النوع السادس، وابتدأ هذا العلم بذكر من صنّف فيه، وهو أبو القاسم السهيلي في كتابه المسمى بالتعريف والإعلام، وتلاه تلميذه ابن عساكر في كتابه المسمى بالتكميل والإتمام. ثم ذكر أسباب الإبهام:
الأول: أن يكون أبهم في موضع استغناء ببيانه في آخر في سياق الآية، كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بيّنه في قوله: {وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ}.
الثاني: أن يتعين لاشتهاره: كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ولم يقل حواء لأنه ليس غيرها.
الثالث: قصد الستر عليه، ليكون أبلغ في استعطافه كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}.
الرابع: ألا يكون في تعيينه كثير فائدة، كقوله تعالى في سورة البقرة: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ} والمراد بها بيت المقدس.
الخامس: التنبيه على التعميم كقوله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
السادس: تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم: كقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ}. والمراد الصديق.
السابع: التحقير بالوصف الناقص، كقوله تعالى: {إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ} والمراد به الوليد بن عقبة، وكقوله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ والمراد فيها العاصي ابن وائل.
ثم أعقب ذلك ببعض التنبيهات والتوضيحات، معتمدا في ذلك على أدلة من القرآن الكريم، وفي مواطن كثيرة يستشهد بأقوال العلماء الذين كتبوا في الموضوع وصنفوا فيه، وينقل أقوالهم وكلامهم، وأحيانا يناقش تلك الأقوال مؤيدا لها أو معارضا أو مرجحا.
ويدل منهجه على ما يلي:
أولا: تمكنه من مادته العلمية وسعة اطلاعه.
ثانيا: حسن استيعابه لما يكتب فيه، فلا يستطرد ولا يطيل.
ثالثا: النقل الأمين، وينسب كل قول لقائله، وينقل عبارة العلماء مروية عنهم.
رابعا: روعة أسلوبه، وسلامة عبارته.
وهذه الخصائص جعلت الزركشي حجة فيما يكتب، وجعلت كتاب البرهان من أبرز الكتب في علوم القرآن، ولا يستغني عنه باحث أو دارس، وقد تأثر به جلال الدين السيوطي في كتابه (الإتقان)، ونقل عنه الكثير من العبارات والنقول، ونستطيع أن نقول إن كتاب الإتقان هو مختصر لما في كتاب البرهان، وهو شديد الشبه به في أسلوبه ومنهجه.
الإتقان في علوم القرآن:
يعتبر كتاب (الإتقان في علوم القرآن) للحافظ جلال الدين السيوطي من المراجع المعتمدة والهامة، ولا يمكن الاستغناء عنه لكل من يريد البحث في علوم القرآن، فهو كتاب جمع فيه السيوطي علوم القرآن، ونقل أقوال العلماء في كل علم من العلوم، وأشار إلى الكتب المصنفة في كل علم، واختار من كتب السابقين ما يتعلق بالموضوع من آراء وأقوال، وقد قام بتحقيق هذا الكتاب الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم الذي قام بتحقيق كتاب البرهان للزركشي.
وقال المحقق في مقدمة كتاب الإتقان في معرض كلامه عن الحافظ السيوطي: وكتابه الإتقان في علوم القرآن هو الحلقة الذهبية في سلسلة كتب الدراسات القرآنية، أحسنها تصنيفا وتأليفا، وأكثرها استيعابا وشمولا، جمع فيه من أشتات الفوائد، ومنثور المسائل ما لم يجتمع في كتاب، ولم تكن هذه الدراسات قد اتخذت وضعا مستقلا في العصور الإسلامية الأولى، وإنما وردت متفرقة في روايات المحدثين وأقوال العلماء، ومقدمات كتب المفسرين، كالطبري والزمخشري والحوفي وابن عطية والقرطبي، وجاء قدر منها في كتب البلاغة والنقد، كدلائل الإعجاز وأسرار البلاغة والصناعتين ونقد النثر ومفتاح العلوم، ومثلها في كتب الجدل والمناظرات، كالانتصار للباقلاني والمغني للقاضي عبد الجبار، ومثلها أيضا في كتب القراءات والرسم والأحكام، وأول كتاب صنف مستقلا في هذا الفن، كتاب البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، أحد فقهاء الشافعية في القرن الثامن، جمع فيه عصارة أقوال المتقدمين، وصفوة آراء العلماء المحققين، وجعله في سبعة وأربعين بابا.
وظهرت كتب بعد كتاب البرهان، تحدثت عن بعض المسائل المتعلقة بأسباب النزول وطرق الأداء والتفسير والتأويل، وقال عنها السيوطي: إن ما ورد فيها لم يشف غليلا، ولم يهد إلى المقصود سبيلا. وعندئذ تصدى السيوطي للكتابة في علوم القرآن، وكتب كتابا سماه (التحبير في علوم التفسير) جمع فيه أكثر من مائة باب استوفى فيه كل ما يتعلق بهذا الفن، وجمع في كل باب كل مسائله وفروعه، ثم شرع في تنقيح هذا الكتاب، وتهذيبه وإعادة النظر في ترتيب أبوابه وفصوله، بشكل يحقق الغاية المقصودة، وكان هذا الكتاب هو (الإتقان في علوم القرآن) وجعله مقدمة لكتابه في التفسير (مجمع البحرين ومطلع البدرين)، وجعل أبوابه ثمانين بابا اشتملت على كل ما يتعلق بعلوم القرآن.
منهجه في التصنيف:
وصف المحقق في مقدمة الكتاب منهج السيوطي في التصنيف بقوله:
وطريقته في التصنيف أن يذكر عنوان الموضوع، ويذكر أشهر من ألف فيه، ثم يشفعه بفائدة معرفته، وأهميته في تفهم القرآن وتفسير معانيه، ثم يذكر مسائله، وما عساه أن يكون لها من فروع وذيول، مستشهدا في كل ذلك بالقرآن أو الحديث أو أقوال العلماء، وينقل نصوصا من الكتب التي ألفت فيه، فصولا كاملة أو مختصرا منها، وكثيرا ما يذيل هذه الأبواب برأيه بعد أن يورد كلمة (قلت).
ثم قال المحقق بعد أن ذكر نماذج من كتاب الإتقان:
(ومن خير ما امتاز به كتاب الإتقان أنه أورد فيه كثيرا من نصوص الكتب التي لم تقع لنا، من كتب الجعبري والباقلاني والكيا الهراس والزملكاني وابن الأنباري وغيرهم بعد أن نثرها متفرقة في الفصول والأبواب، ويؤخذ على السيوطي أنه أورد في الكتاب كثيرا من الروايات الضعيفة والأحاديث التي لم تثبت صحتها عند المحدثين، ولكنه أوردها بإسنادها وإن كان في ذكر السند ما يميز الصحيح من الضعيف عند العلماء).
ثم قال بعد ذلك:
(وفي الجملة، فإن كتاب الإتقان بما حواه من مصارف وفنون، وما جمع فيه من أخبار وأقوال يعد بحق من أكرم الذخائر وأنفس الأعلاق).
السيوطي يعرف كتابه الإتقان:
ولد جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال السيوطي سنة ثمانمائة وتسع وأربعين هـ، ونشأ يتيما، وأخذ علمه عن كبار علماء عصره في مصر، من أمثال شيخه محيي الدين الكافيجي، وتنقل في عدد من البلاد الإسلامية، واشتهر بكثرة التأليف والتصنيف، وذكر له بروكلمان أربعمائة وخمسين مؤلفا بين مطبوع ومخطوط، وأوصل ابن إياس مؤلفاته إلى ستمائة مؤلف، ونظرا لكثرة مؤلفاته ولشهرته، فقد اتهمه منافسوه بالسطو على كتب المكتبة المحمودية، وادعاء بعض كتبها لنفسه، بعد إدخال بعض التعديلات عليها، وممن شارك في اتهامه السخاوي، إلا أن تلك التهم لا يمكن أن تقلل من مكانته العلمية وقدرته على التأليف، وهناك كتب عظيمة لا يمكن أن يشك في نسبتها إليه، وهي كافية للتدليل على موهبته وكفاءته وعلمه، واشتهر بالزهد والتقى والصلاح، وتوفي سنة 911 هـ بالقاهرة.
وشرح في مقدمة كتابه الإتقان الأسباب التي دفعته لتأليف هذا الكتاب، وإنه أراد أن يضع كتابا جامعا شاملا سماه (التحبير في علوم التفسير) وذكر أبواب هذا الكتاب في مقدمته، وهي أكثر من مائة باب، ثم خطر له أن يؤلف كتابا مبسوطا ومجموعا مضبوطا يسلك فيه طريق الإحصاء، ويمشي فيه على طريق الاستقصاء، وكان يظن أنه متفرد بذلك غير مسبوق بالخوض في هذه المسالك، وبينما هو يجيل في ذلك فكره، بلغه أن الإمام بدر الدين الزركشي ألف كتابا في ذلك سماه (البرهان).
وقال في وصف ذلك:
ولما وقفت على هذا الكتاب ازددت به سرورا، وحمدت الله كثيرا، وقوي العزم على إبراز ما أضمرته، وشددت الحزم في إنشاء التصنيف الذي قصدته، فوضعت هذا الكتاب العلي الشأن، الجلي البرهان، الكثير الفوائد والإتقان، ورتبت أنواعه ترتيبا أنسب من ترتيب البرهان، وأدمجت بعض الأنواع في بعض، وفصلت ما حقه أن يبان، وزدته على ما فيه من الفوائد والفرائد، والقواعد والشوارد، ما يشغف الآذان، وسميته بالإتقان في علوم القرآن، وسترى في كل نوع منه إن شاء الله تعالى ما يصلح أن يكون بالتصنيف مفردا، وستروى من مناهله العذبة ريا ولا ظمأ بعده أبدا، وقد جعلته مقدمة للتفسير الكبير الذي شرعت فيه، وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين (الجامع لتحرير الرواية وتقرير الدراية).
مقارنة بين البرهان والإتقان:
من اليسير علينا أن نكتشف أوجه التشابه بين كل من البرهان للزركشي والإتقان للسيوطي، وهو تشابه يؤكد أن السيوطي قد اعتمد كل الاعتماد على كتاب البرهان، ونقل الكثير مما ورد فيه من أقوال العلماء، وأحيانا تكون العبارة واحدة في كل من الكتابين، ويتميز البرهان بدقة العبارة، وتكامل الموضوع، وأصالة المنهج، وعمق الدراسة في الوقت الذي يتميز فيه الإتقان بالجمع والإيجاز.
قال الزركشي في البرهان في معرض حديثه عن معرفة أسباب النزول الذي بدأ به أبواب كتابه وأنواع علوم القرآن.
وقد اعتنى بذلك المفسرون في كتبهم، وأفردوا فيه تصانيف، منهم علي بن المديني شيخ البخاري، ومن أشهرها تصنيف الواحدي في ذلك، وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته، لجريانه مجرى التاريخ، وليس كذلك، بل له فوائد:
- منها وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
- ومنها تخصيص الحكم به عن من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
- ومنها أن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيص.
- ومنها الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال.
- ومنها الوقوف على المعنى.
- ومنها أنه قد يكون اللفظ عاما ويقوم الدليل على التخصيص.
- ومن الفوائد أيضا دفع توهم الحصر.
وقال السيوطي في معرض كلامه عن معرفة سبب النزول:
أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم علي بن المديني شيخ البخاري، ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز، وقد اختصره الجعبري فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئا، وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر كتابا مات عنه مسودة، فلم نقف عليه كاملا، وقد ألفت فيه كتابا حافلا موجزا محررا، لم يؤلف مثله في هذا النوع، سميته (لباب النقول في أسباب النزول).
قال الجعبري: نزول القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال، وفي هذا النوع مسائل:
المسألة الأولى: زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن لجريانه مجرى التاريخ، وأخطأ في ذلك، بل له فوائد:
- منها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
- ومنها: تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
- ومنها: أن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه.
- ومنها: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال.
- ومنها: دفع توهم الحصر.
وهناك اختلافات في بعض المسائل، وزيادات، وتقديم وتأخير، وروايات قد نجدها في الأول ولا نجدها في الثاني، وقد ينفرد بها السيوطي، نظرا لأنه المتأخر، واعتمد على مصنفات ومؤلفات لم يطلع عليها الزركشي.
ولا خلاف أن الباحث في علوم القرآن لا يمكنه أن يستغني عن كل من البرهان والإتقان، ومعظم ما كتبه المتأخرون لا يخرج عما ورد فيهما، ولكل منهما خصائصه ومزاياه، ومن اليسير أن نجد كتبا ومصنفات في كل علم من علوم القرآن، كأسباب النزول، والقراءات وغريب القرآن، وإعراب القرآن، وأمثال القرآن، وفضائل القرآن، اشتملت على مباحث ومسائل وفروع لا نجدها في الكتب المؤلفة في علوم القرآن، إلا أن من الصعب أن نجد مصنفات في علوم القرآن ترقى إلى مستوى هذين الكتابين، وما كتبه المتأخرون في علوم القرآن لا يخرج عما كتبه الزركشي والسيوطي.
وتتميز كتب المتأخرين بالاختصار والإيجاز، وعدم الإكثار من الأقوال المنقولة عن العلماء، واستيعاب ما قيل في الموضوع، وهذا منهج من الصعب تجاهل أهميته، وإنكار فوائده، فكثرة النقول، وبخاصة ما يبرز فيها التكرار، لا يضيف شيئا، وربما ينصرف الذهن عن المتابعة، ويعجز عن جمع شتات الأقوال الكثيرة.
وهذا لا ينفي أهمية ذكر هذه الآراء في مجال البحوث المتخصصة، حيث تتكامل الآراء وتتقارب، مكونة مدارس للتفكير ومناهج متميزة تساعد على معرفة تطور الدراسات القرآنية.
ويجدر هنا أن نفرق بين المؤلفات المدرسية التي يراد بها تيسير الدراسات المتعلقة بعلوم القرآن، والإلمام بكل ما يتعلق بكتاب الله، من حيث مواطن نزوله وجمعه وكيفية قراءته ورسمه وقواعد وقفه وفواتح سوره وخواتمها وفواصله وآياته، أو من حيث إعجازه وأسلوبه وفصاحته وبلاغته، وما جاء منه محكما أو متشابها، والمؤلفات العلمية التي تحرص على دراسة جوانب دقيقة من تاريخ القرآن أو علومه، وما يصح في المؤلفات التي أعدت للتدريس لا يصح في مجال البحث العلمي، ولا يقبل، ولا يعتبر كافيا.
ولا نستطيع أن ننكر أهمية الدراسات والبحوث التي أعدت في العصر الحديث، في مجال الدراسات القرآنية، وهي تؤكد أن عصرنا هذا هو بداية عصر جديد في مجال الدراسات الإسلامية، وبالرغم من قلة البحوث الأصيلة، فإن كل المؤشرات تؤكد على أن هذا الجيل مؤهل لتحمل المسئولية، عازم على متابعة طريق البحث للوصول للمعرفة.
ومعظم الدراسات المتعلقة بتاريخ القرآن يراد بها تعليم الأجيال اللاحقة تاريخ قرآنهم، وإعلامهم بعظمة الجهود التي بذلها علماء السلف في خدمة القرآن، لتوثيق نصوصه وضبط قراءاته، ولا مجال للاجتهاد في هذا الأمر، فتاريخ القرآن لابد فيه من صحة الروايات، ولا يتصور أن يقع الاجتهاد في أمر يتعلق بجمع القرآن أو بسبب نزوله، وغاية ما يمكن أن يفيده البحث هو ترجيح رواية على أخرى، والترجيح لابد فيه من دليل.